بين الضرائب والأسعار.. سوق الإسكان البريطاني يواجه مفترق طرق ومخاوف من تهديد استقرار الملايين

بين الضرائب والأسعار.. سوق الإسكان البريطاني يواجه مفترق طرق ومخاوف من تهديد استقرار الملايين
عقارات بريطانية

تشير أحدث بيانات موقع العقارات البريطاني “Rightmove” إلى انخفاض بنسبة خمسة في المئة في عدد مشترِي المنازل الجدد وكذلك عدد البائعين في شهر سبتمبر مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، في مؤشر واضح على تراجع الثقة بالسوق قبل الميزانية المقبلة، وقد شهد شهر أكتوبر ارتفاعاً طفيفاً في متوسط سعر العرض إذ ارتفع بمقدار 0.3 في المئة، أي ما يعادل 1,165 جنيهاً إسترلينياً ليصل إلى نحو 371,422 جنيهاً، وهو بعيد جداً عن الارتفاع المعتاد في مثل هذا الموسم.

وقالت الخبيرة العقارية كولين بابكوك إن التكهنات حول ميزانية وزيرة الخزانة ريتشِل ريفز ورفع الضرائب على العقارات الفاخرة دفعت المشترين، خصوصًا في جنوب إنجلترا، إلى التمهّل والانتظار لما ستعلنه الحكومة، وأكدت ريفز في تصريحات صحفية أن من يملكون "أوسع الأكتاف" ينبغي أن يدفعوا "نصيبهم العادل من الضرائب"، مضيفة أن الميزانية المقبلة في بريطانيا ستُصمم لاحتواء التضخّم وزيادة الإيرادات العامة وفق صحيفة "الغارديان" البريطانية.

في موازاة ذلك، تتداول تقارير متزايدة فرض ضريبة على مبيعات المنازل التي تتجاوز قيمتها 500 ألف جنيه إسترليني، وإلغاء الإعفاء من ضريبة الأرباح الرأسمالية على المساكن الأساسية التي تزيد قيمتها على 1.5 مليون جنيه، فضلًا عن إضافة شريحة جديدة لضريبة المجلس (Council Tax) على العقارات عالية القيمة، وتواجه ريفز ضغوطًا من داخل حزب العمال لإصلاح النظام الضريبي العقاري بشكل أكثر شمولاً.

لماذا يتراجع السوق؟ 

أول الدوافع هو مفعول الانتظار فمع شائعات قوية داخل الشارع البريطاني حول تغيير ضريبي في الميزانية، تأخر عدد كبير من المشترين والبائعين اتخاذ قراراتهم، إذ يخشى البعض أن تتحول المنازل التي سيشترونها أو التي يمتلكونها إلى عبء ضريبي أكبر لاحقًا، وثانيًا، تكلفة التمويل العالية تشكّل حاجزًا واضحًا ورغم أن أسعار الرهن العقاري قد تكون مستقرة نسبيًا في بعض الفترات، فإن الفوائد المرتفعة تجعل الاقتراض عبئًا؛ ومع تضاؤل العائد المحتمل من البيع أو التأجير، يفضل كثيرون الانتظار.

أما العامل الثالث فيتمثل في ارتفاع تكاليف البناء وضعف العرض يلقي بظلاله على القطاع، خصوصًا مع تشديد اللوائح التنظيمية والاعتماد على متطلبات السلامة والجودة، ما يبطئ المشاريع الجديدة ويقلل من قدرة المطورين على تلبية الطلب عند العودة المحتملة للنشاط، ورابعًا، صيغة الضرائب المقترحة تُعد عبئًا نفسيًا وماديًا على أصحاب العقارات والمستثمرين المحتملين، فالمخاوف من فرض ضريبة مبيعات على العقارات الفاخرة أو شريحة جديدة من ضريبة المجلس قد تُغيّر المعادلة كلها بين المخاطرة والعائد.

تداعيات بشرية وأخلاقية

إن الركود العقاري لا يقتصر على تراجع في الأرقام؛ إنه ملف مفتوح على معاناة من يطمح إلى استقرار سكني، وكثير من العائلات التي كانت تخطط لشراء منزل تراهن على تراجع الأسعار أو مزايا ضريبية لتأمين مستقبل أولادها، باتت تواجه عدم اليقين.

منظمات حقوقية محلية تنبّه إلى أن الضرائب العقارية الجديدة قد تضاعف أعباء الفقراء وذوي الدخل المتوسط، وتجعل امتلاك المنزل هدفًا بعيد المنال، فبينما يُنظر إلى المنزل كمأوى وكاستثمار بعيد الأمد، فإن الضرائب الثقيلة قد تحول هذا الهدف إلى عبء مالي دائم، وقد رأت جمعيات حماية المستهلك أن فرض ضرائب إضافية على العقارات بدون ضمانات تعويضية أو حوافز قد يخلق عبئًا مزدوجًا: دفع الفوائد والضرائب على نحو يُرهق الميزانيات المنزلية.

على المستوى الدولي، تراقب هيئات الأمم المتحدة وسياسات السكن كحق إنساني، وتُذكّر أن الضرائب العقارية يجب ألا تُستخدم كأداة لتهجير السكان أو تهميش الشرائح الأشد ضعفًا، ومن المنظمات الحقوقية الدولية التي تنخرط في هذا الحقل منظمة حقوق الإنسان العالمية ومنظمة الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (UN-Habitat) التي تشدّد على أن الضرائب العقارية العادلة يجب أن تراعي مستوى دخل السكان، وتُطبّق تدريجياً حتى لا تُحدث صدمة على الأسر.

من جهة القانون الدولي، لا توجد مبدأ ملزم يجبر الدول على إعفاء العقارات، لكن المبادئ الأساسية للحقوق الاقتصادية –كالحق في المسكن الملائم– تضع ضغوطًا أخلاقية على الحكومات لضمان أن الضرائب لا تقضي على فرص السكن، ولا تؤدي إلى نزوح داخلي أو تفكك المجتمعات المحلية.

أطر تنظيمية متعلقة

في بريطانيا لم تبرز حتى الآن أحكامُ قضائية كبرى تُلغي ضرائب عقارية أو تقيّدها، لكن القوانين التنظيمية والتنفيذية في مجال التخطيط والتحفيز السكني تلعب دورًا جوهريًا، على سبيل المثال، الحكومة تعمل على تسهيل إجراءات التخطيط وتقليص العوائق التنظيمية باستخدام الذكاء الاصطناعي، لتسريع بناء المساكن وتحفيز العرض، وتضع حكومة لندن، على سبيل المثال، في الاعتبار تليين بعض متطلبات التصميم لخفض تكاليف البناء.

كما تُطرح مقترحات إصلاح الضرائب العقارية بجدية في الأوساط الأكاديمية، مثل مقترح البروفيسور جون مولباوير الذي يقترح استبدال الفئتين العلويتين من ضريبة المجلس بضريبة ثروة سنوية بنسبة 0.5% من قيمة العقار، تشمل نحو 1.14 مليون عقار في إنجلترا وويلز، مع آلية تأجيل لأصحاب المعاشات محدودي النقدية، وهذا التصور بات يثير نقاشًا ملحوظًا قبل الميزانية المقبلة.

في تحليل شامل لـOptions for Tax Increases الذي أعدّه معهد الدراسات المالية (IFS)، يُشير المعهد إلى أن رفع الإيرادات من الضرائب أمر متوقع، لكنه يحذّر من الضرر المحتمل للنمو إذا تم اختيار أدوات ضريبية رديئة التصميم، ويرى أن الإصلاح العقاري قد يكون من الدلائل الأكثر مباشرة على ميزة النظام الضريبي، لكن ينبغي أن يُنفذ بحذر لضمان عدم إضعاف سوق السكن.

السوق العقاري والانهيارات

لم يكن سوق السكن البريطاني دائمًا هادئاً أمام الأزمات ففي سبعينيات القرن العشرين واجهت البلاد أزمة تُعرف بـ أزمة البنوك الثانوية 1973–1975، حيث انهارت أسعار العقارات فجأة وانهارت عدة بنوك صغيرة بسبب الإفراط في الإقراض العقاري وارتفاع أسعار الفائدة المفاجئ، وهذه الأزمة تُعد من مآسي تاريخ السكن في بريطانيا، وهي تذكّر اليوم بأن أسواق العقار حساسة للغاية أمام التغيّرات الاقتصادية والسياسات النقدية.

كما أزمة الغلاف الخارجي (cladding crisis) في السنوات الأخيرة أضعفت ثقة المشترين في بعض المباني، وجعل بعض العقارات غير مؤهلة للحصول على تمويل رهن عقاري، مما أثر سلبًا على قدرة البعض على البيع أو الانتقال. 

وإذا أُدمجت الضرائب العقارية الجديدة مع ضعف العرض والتمويل، فقد يشهد السوق ركودًا أعمق يستمر إلى ما بعد الميزانية، مع احتمال أن تتراجع الأسعار في بعض المناطق، خصوصًا في تلك التي تشهد فائضًا في المعروض أو انخفاض الطلب، وقد تتراجع رغبة المستثمرين في العقار كأصل للاستثمار، إذا بات العائد بعد الضرائب ضئيلاً.

من جهة أخرى، إذا توازنت الحكومة بين الضرائب وتحفيز العرض (من خلال تخفيف القوانين التنظيمية وتقديم حوافز للمطورين)، فإن السوق قد يتعافى تدريجيًا، مع عودة الثقة إذا أزيل عنصر المفاجأة الضريبي.

لكن أخطر السيناريوهات هو أن الضرائب العقارية الثقيلة تُخنق أصحاب العقارات الفردية، خصوصًا أولئك الذين ورثوا منازل كبيرة لكن دخلهم محدود، مثل كبار السن في الأحياء الراقية الذين قد يعجزون عن تحمل ضرائب سنوية أو ضريبة القيمة العالية عند البيع.

وفي هذا السياق، قد تُثار دعاوى أمام المحاكم الإدارية إذا طالت الضرائب العقارات بطريقة تُعتبر غير عادلة أو تفتقر إلى التشريع الصريح، وقد يواجه التشريع المقترح تحديات دستورية إذا تمّ الطعن في تمييزه أو في أسلوب احتسابه.

سوق الإسكان البريطاني يعيش اليوم مرحلة انتقالية صعبة بين الركود والقلق الضريبي، ما كان يُعتبر استثمارًا مستقرًا أصبح أحد نقاط التوتر في حديث الأسر والمطورين والمستثمرين والمشرّعين.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية